موضوع: لماذا لم تحب مصر داليدا ؟؟؟؟؟؟؟؟ الخميس ديسمبر 24, 2009 3:30 am
كنت أطالع صحيفة فرنسية على الطائرة التي أقلتني إلى باريس صباح العاشر من مايو الماضي، وإذا بعنوان عريض في الصفحة الأولى يقول : " غدا افتتاح معرض داليدا .. حياة في مقر بلدية باريس ". وفي التفاصيل أن عمدة باريس " برتران دو لانويه " يفتتح معرضا ضخما تكريما للفنانة داليدا بمناسبة ذكرى وفاتها العشرين . ولما كانت داليدا مصرية المولد والنشأة ، وفنانة عالمية شهيرة رغم ما مر من سنوات على وفاتها ، حجم مبيعات اسطواناتها يقرب من المليون اسطوانة سنويا . ولما كنت من محبيها ، ذهبت إلى معرضها المفتوح مجانا للجمهور حتى 8 سبتمبر القادم . فوجدته درسا في إقامة المعارض التذكارية التكريمية ، ورحلة ممتعة مع كل ما يتعلق بداليدا. هناك مذكرات شخصية بخط يدها ، ورسائل متبادلة مع زعماء سياسيين رأسوا فرنسا من شارل ديجول الى جاك شيراك مرورا بفرانسوا ميتران . ووثائق أخرى شخصية . بالإضافة إلى صور فوتوغرافية لم تنشر . وأغلفة اسطواناتها ، ومتعلقات شخصية لها ، ولوحات وتماثيل . فضلا عن عرض برامج تلفزيونية سجلت معها وأفلام فيديو تتضمن أغانيها . ولم يكن هذا المعرض هو المظهر الوحيد لاحتفال فرنسا بذكرى وفاة داليدا . فلقد شاركت جميع القنوات التلفزيونية تقريبا في الاحتفال . ولفت نظري في هذه المشاركة عرض فيلم روائي تلفزيوني عنها مدته ساعتين ، لعبت دورها فيه الفنانة الإيطالية سابرينا مجيريللي ، وداليدا إيطالية الأصل . وحدثتني إحدى الصديقات عن برنامج آخر أذاعه التليفزيون الفرنسي تضمن لقطات صورت في القاهرة ، وفي حي شبرا بالذات حيث ولدت داليدا . وسألوا ناسا في الشارع عنها ، بعضهم عرفها وبعضهم لم يعرفها . وسألوا من عرفوها لماذا لا تحتفلوا بذكراها . ولم أعرف التفاصيل . لكن السؤال منطقي . ليس على مستوى رجل الشارع ، ولكن على مستوى الدولة أيضا . وأنا لا أذكر أنني قرأت قبل سفري خبرا عن ذكرى وفاة داليدا في أي صحيفة أو مجلة مصرية ، ولم أسمعه في محطات الراديو أو التلفزيون . فرنسا تحتفل بداليدا رغم أنها ليست فرنسية الأصل ولا المولد ، بل بدأت حياتها هناك وعمرها 22 سنة . لكنها ماتت بسبب تناولها جرعة زائدة من الأقراص المنومة وتركت رسالة بجوارها كتبت فيها: " أصبحت الحياة غير محتملة .. سامحوني " . ودفنت في باريس في 3 مايو 1987 في مقابر جبل مونمارتر المطل على العاصمة وهو حي الفنانين . وأطلقوا على أحد ميادين هذا الحي اسمها ، ووضعوا فيه تمثالا نصفيا لها كتبوا تحته : " يولاندا جيجليوتي – الشهيرة بداليدا – مغنية وممثلة – 1933 – 1987 " . ولم يتوقف تكريم فرنسا لداليدا عند هذا الحد ، بل أصدرت لها طابعا بريديا يحمل صورتها عام 2001 . ومصر لا تحتفل بداليدا ولا تذكرها حتى ، وكأنها تتبرأ منها . رغم أن موهبة داليدا الفنية بدأت وتفتحت في القاهرة ، وفي حي شبرا الشعبي . وفيه تعلمت العزف وأخذت دروسا في الغناء . وحملت لقب " ملكة جمال مصر " عام 1954 . وقدمها المخرج السينمائي " نيازي مصطفى " في دور " دليلة " ، ثم مثلت في فيلم " سيجارة وكاس " . وبعده بدأت هجرتها الفرنسية . ورغم تحقيقها لنجاحها الفني الساحق بأفلامها وأغانيها التي غنتها بعدة لغات على رأسها الفرنسية والإيطالية . إلا أنها كانت تعتز دائما بمصريتها ، وظهر ذلك جليا في أغنيتيها التي غنتهما باللهجة المصرية من تأليف صلاح جاهين وتلحين بليغ حمدي وهما : " سالمة يا سلامة " ، و " حلوة يا بلدي " . وقبل رحيلها بعام وافقت على طلب المخرج يوسف شاهين ومثلت في فيلمه " اليوم السادس " عن رواية كاتبة أخرى مصرية المولد مجهولة للأجيال الحالية في مصر وهي : اندرية شديد " . وكان فيلما سوداويا حزينا يناسب وقائع حياتها في سنواتها الأخيرة والتي انتهت بالموت . إذن طالما هناك هذه العلاقة بين داليدا ومصر ، وطالما أظهرت داليدا حبها لمصر ، فلماذا لم تحب مصر داليدا ؟ لماذا لم تطلق اسمها على الشارع الذي ولدت فيه في شبرا ؟ وبالمناسبة أرجو من الزملاء في جريدة الأخبار أن يقدموا لنا تحقيقا عن هذا الشارع وعن البيت الذي ولدت فيه إن كان لا يزال موجودا . لماذا لم تذكرها وسيلة إعلام مصرية لا في ذكراها العشرين ولا في أية ذكرى سابقة ؟ لماذا لم تحتفل بها وزارة الثقافة المصرية ؟ ولماذا .. ولماذا ؟ يبدو أن هذا الحال لا ينطبق فقط على داليدا ، بل على غيرها أيضا حتى من المصريين الأصلاء . الموضوع ليس شخص داليدا ، رغم أنها تستحق كل تكريم ، ولكن الأهم هو فقدان قيمة التقدير والتكريم لمن يستحق . وذهابها في أحيان كثيرة لمن لا يستحق . وهذا طبيعي فيما نعيش فيه الآن : فكم من الشوارع عليها أسماء نكرات وأسماء عجيبة ومضحكة . وكم يحمل الإنتاج الغنائي الآن من الغث والتافه والسفيه والصغير . وخرج مؤدو فقرات الكباريهات الواطئة ليصبحوا نجوم المجتمع ويغنوا في أفراح الكبار . لقد تلوث الذوق العام ، وجمع التلوث بين كبارا وصغارا فأصبح الجميع ملوثون . نحارب الإبداع الراقي من جهة ، ونروج للمنحط من جهة أخرى ، ونختلف على رضاعة الكبير وشرب البول في الوقت نفسه . فبئس الحال الذي تدهورنا إليه . (2) أحب باريس . هي المدينة التي قضيت فيها سنواتي الذهبية من سن الخامسة والعشرين حتى الثلاثين . وهي التي أنجبت فيها ابنتي الوحيدة . وكتبت فيها كتابي الأولين : " السريالية في مصر " و " راية الخيال " . وهي الدرس الأول والأهم في العمارة والتنسيق الحضاري . هناك أحياء وشوارع في باريس أحرص على زيارتها في كل مرة ، استعادة لذكريات واطمئنانا على معالمها . وهي تقع إجمالا بين حديقة لوكسمبورج ، مرورا بشارع سان ميشيل ، وعبورا لنهر السين حتى مركز جورج بومبيدو وانعطافا يسارا إلى شارع ريفولي ومتحف اللوفر ومسرح الكوميدي فرانسيز وحدائق التوليري حتى ميدان الكونكورد بمسلته المصرية ، ثم بداية شارع الشانزليزيه حيث المتحفين : القصر الكبير والقصر الصغير ، وانتهاء بميدان قوس النصر الشهير ، أو ميدان شارل ديجول .
قمت بهذه الجولة المعتادة هذه المرة أيضا . لكنني فوجئت بتغير أزعجني على عمارة باريس . كنا نضرب المثل بحفاظ فرنسا على الطابع المعماري المميز لعمارتها القديمة ، من خلال الحفاظ على واجهات هذه المباني بطرازها الأصلي ، وعمل كل التعديلات والتغييرات في الداخل . لكنني وجدت أن هذا المبدأ لم يعد محافظا عليه بالصرامة التي كان عليها لسنوات قليلة خلت . فهناك مباني هدمت وأقيمت بدلا منها مباني أخرى ذات واجهات حديثة مختلفة عن الطراز المعماري المحيط بها . ومن أبرز الأمثلة على ذلك منطقة " الهال" في قلب باريس وبالقرب من مركز بومبيدو. واقع الأمر أن هذه المنطقة كانت أول منطقة جربوا فيها أفكارا معمارية حديثة . وبدأ ذلك في بدايات السبعينيات من القرن الماضي بسوق " الهال " للجملة ، حيث نسفوا السوق وأقاموا بدلا منه مركزا تجاريا عملاقا من عدة طوابق تحت الأرض ومحاطا بحدائق ذات تصميمات حديثة أيضا. وبالقرب من هذا السوق جرب المهندس المعماري الإيطالي " رينزو بيانو " تصميم مركز بومبيدو الثقافي من مجموعات ضخمة من الأنابيب المعدنية . وأثار ذلك في حينه ثورة عديد من كبار المعماريين في العالم . وخصوصا لأنهم زرعوا التصميم في حي باريسي عتيق . فوجئت هذه المرة بأن موجات الحداثة المعمارية أصابت أعدادا أخرى من المباني في الحي نفسه . وأصبحت الموضة هي استخدام المعادن والزجاج وبخاصة المرايا في الواجهات . حتى أن مبنى وزارة الثقافة الفرنسية نفسه والقريب من مسرح الكوميدي فرانسيز العتيق أحاطوا واجهاته الضخمة بسياج مرتفع من التشكيلات الفنية المعدنية ، والتي أخفت حوائط المبنى نفسه . وانتقلت الظاهرة إلى أحياء أخرى في باريس العتيقة . حتى بت أخشى من تغير ملامحها المعمارية المميزة كلما أوغلنا في القرن الواحد والعشرين . وبخاصة وأن باريس مدينة مسطحة ممتدة ومتداخلة الأحياء ، وليست كروما مثلا تنقسم إلى مرتفعات ومنخفضات تمنح خصوصية لكل حي . فهل ستصبح باريس التي تعلمنا منها التنسيق الحضاري في حاجة إليه ؟ حملت سؤالي إلى مدينة ليون الفرنسية حيث حضرت المؤتمر الدولي " جلوبال سيتيز " أو المدن الكوكبية ، لأتحدث عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لأول مرة خارج مصر وفي مثل هذا الحضور العالمي الضخم .